ظهور وسقوط القوى العظمى عبر التاريخ كان نتيجةً لعوامل متعددة، من بينها القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، بالإضافة إلى التغيرات الاجتماعية والثقافية، ولا يزال هذا المسار مستمراً حتى اليوم. الطموح، الصعود، وفي النهاية الانحدار، كانت سمات مشتركة لجميع القوى العظمى، من الإمبراطورية الرومانية إلى الإمبراطورية البريطانية، وكلها تأثرت بسلسلة من العوامل المتشابهة نسبياً. ويمكن القول إن القوى العظمى الثلاث في الخمسمئة سنة الماضية، أي الإمبراطوريات الهولندية والبريطانية والأمريكية، والتي تُعد من أقوى الإمبراطوريات في التاريخ، قد نشأت وبلغت ذروتها وتعرضت في النهاية لتراجع في قوتها ونفوذها تحت تأثير تلك العوامل المشتركة نفسها. لقد اشتهرت الإمبراطورية الهولندية في القرن السابع عشر بشبكتها التجارية الواسعة وقوتها البحرية. ومع ذلك، فقد بدأت الإمبراطورية الهولندية بالانحدار في القرن الثامن عشر بسبب الحرب مع الإمبراطورية البريطانية وعدم الاستقرار الاقتصادي. أما الإمبراطورية البريطانية، التي ظهرت في القرن التاسع عشر، فكانت أكبر إمبراطورية في التاريخ، حيث شملت في ذروتها ربع مساحة الأرض. لكنها بدأت أيضاً في الانحدار في القرن العشرين بسبب التراجع الاقتصادي، والحربين العالميتين، وظهور قوى عظمى جديدة. أما الإمبراطورية الأمريكية، التي ظهرت في القرن العشرين، فقد تأسست على القوة الاقتصادية والعسكرية. ومع ذلك، فقد واجهت هذه الدولة في السنوات الأخيرة تحديات، من بينها التراجع الاقتصادي، والانقسام السياسي، وظهور قوى عالمية جديدة. في هذا القسم، سيتم التطرق إلى تفاصيل العوامل المؤثرة في صعود وسقوط القوى.

امپراتوری هلند

الإمبراطورية الهولندية: انهيار تدريجي

في عصرهم الذهبي، مال الهولنديون نحو “الأرستقراطية والتفاخر بالترف”، وقد أدى هذا الأمر تدريجياً إلى إضعاف أوضاعهم المالية. ومن جهة أخرى، كانت هناك قوى أخرى قد ظهرت في الوقت نفسه، وأخذت تتحدى سلطة الإمبراطورية الهولندية. كما أن الهولنديين، الذين أصبحوا في القرن السابع عشر قادة مميزين في مجالات الابتكار والتجارة والثروة، لم يتمكنوا من مواصلة هذا المسار في القرون التالية، وفي النهاية أصبح الحفاظ على إمبراطوريتهم الواسعة أمراً مستحيلاً. كذلك، تراجعت الهيمنة التعليمية والتكنولوجية لهولندا، وبعد انهيار شركة الهند الشرقية الهولندية، خرجت البلاد تماماً من دائرة المنافسة العالمية. في القرن الثامن عشر، أدت الثورة الصناعية إلى تفوق البريطانيين على الهولنديين كقوة اقتصادية ومالية أولى في أوروبا، وقد أدى النمو الاقتصادي الأبطأ في هولندا مقارنة بالقوى الأخرى إلى صعوبة الحفاظ على إمبراطوريتها الواسعة، لا سيما أن تلك الإمبراطورية كانت تحت حكم مركزي صغير الحجم. وقد تعلمت بريطانيا بشكل خاص من الابتكارات الهولندية، واستثمرت في التعليم لتعزيز قدرات شعبها، ولهذا استطاع البريطانيون أن ينتجوا ويتاجروا بشكل أكبر، ويؤسسوا قوة عسكرية خاصة بهم. وفي النهاية، وبعد هزيمة الهولنديين في الحرب الرابعة ضد بريطانيا بين عامي 1780 و1784م، ساءت أوضاعهم أكثر. وقد نشبت هذه الحرب بسبب دعم هولندا لمستعمراتها خلال الثورة الأمريكية، وانتهت بهزيمة كبيرة للهولنديين، مما أنهى استخدام الغيلدر كعملة احتياطية. وقد أدى هذا الانكسار العسكري إلى انتقال مكانة القوة العظمى من هولندا إلى بريطانيا.

شکست امپراتوری هلند

ظلّ الحروب الأهلية على هولندا وضغط بريطانيا

كما كان متوقعاً، ازداد دَين الهولنديين يوماً بعد يوم، وشهدوا العديد من الحروب الأهلية بسبب الصراع على الثروة. كذلك، كانوا قد أصبحوا ضعفاء من الناحية العسكرية، وكل هذه العوامل جعلت الهولنديين عرضة للهجوم. ومع انخفاض الإيرادات من الخارج، قام المستثمرون الهولنديون الأثرياء بتحويل أموالهم السائلة إلى بريطانيا، التي كانت تشهد نمواً اقتصادياً أكبر وعوائد أعلى. ومع ذلك، ظلّ الغيلدر يُستخدم على نطاق واسع كعملة احتياطية عالمية. ثم، اعتباراً من سبعينيات القرن الثامن عشر، بدأ البريطانيون، بصفتهم قوة كبرى ناشئة، في تحدي القوة الكبرى القائمة، وبدأوا التدخل في الملاحة الهولندية، وبعد تجارة السلاح، صعّدوا من مواجهتهم مع الهولنديين في المستعمرات الأمريكية. وفي عام 1781، وجهوا ضربات قوية للأسطول البحري الهولندي في منطقة البحر الكاريبي. وقد اضطرت شركة الهند الشرقية الهولندية، بعد فقدانها نصف سفنها وعدم قدرتها على الوصول إلى طرقها التجارية الرئيسية، إلى اقتراض مبالغ كبيرة من بنك أمستردام من أجل البقاء. ومن ناحية أخرى، بدأت القوى المنافسة بعد هزيمة هولندا في استخدام أسطولها التجاري. أما الحصار الاقتصادي الذي فرضته بريطانيا على هولندا وشركة الهند الشرقية التابعة لها، فقد أدى إلى أزمة سيولة مالية حادة لهولندا.

انخفاض قيمة وموثوقية الغيلدر

الخسائر المالية والديون الضخمة أجبرت البنك المركزي الهولندي على طباعة المزيد من النقود دون غطاء. وبما أن بنك أمستردام كان يطبع المزيد من الأوراق النقدية من أجل تقديم القروض لشركة الهند الشرقية الهولندية، فقد تبيّن سريعاً أنه لا يوجد ما يكفي من الذهب والفضة لدعم جميع المطالبات الورقية. أدى هذا الوضع إلى حدوث “هرولة مصرفية”، حيث بدأ المستثمرون في استبدال أوراقهم النقدية بالمعادن الثمينة. ومع استبدال المودعين لأموالهم الورقية بالذهب والفضة، فقد البنك المركزي الهولندي احتياطياته من المعادن الثمينة. ارتفعت أسعار الفائدة، واضطر بنك أمستردام إلى خفض قيمة وموثوقية الغيلدر. وقد مثّل هذا الإجراء نهاية فعلية للإمبراطورية الهولندية ولغيلدر كعملة احتياطية. وأدى انحدار الإمبراطورية الهولندية إلى بدء الدورة الكبرى التالية في تاريخ العالم، وهي صعود الإمبراطورية البريطانية وعملتها الاحتياطية.

کاهش ارزش و اعتبار گیلدر

چگونه پول بر سیاست‌ها و مقررات ایالات متحده تاثیر می‌گذارد؟

لا وجهات النظر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *